فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

وموقع قوله: {ولا تظلمون فتيلًا} موقع زيادة التوبيخ الذي اقتضاه قوله: {قل متاع الدنيا قليل}، أي ولا تنقصون شيئًا من أعماركم المكتوبة، فلا وجه للخوف وطلب تأخير فرض القتال؛ وعلى تفسير الأجل في: {لولا أخرتنا إلى أجل قريب} بأجل العُمر، وهو الوجه المستبعد، يكون معنى {ولا تظلمون فتيلًا} تغليطهم في اعتقادهم أنّ القتل يعجّل الأجل، فيقتضي أن يكون ذلك عقيدة للمؤمنين إن كانوا هم المخاطبين قبل رسوخ تفاصيل عقائد الإسلام فيهم، أو أنّ ذلك عقيدة المنافقين إن كانوا هم المخاطبين.
وقيل معنى نفي الظلم هنا أنّهم لا يظلمون بنقص ثواب جهادهم، فيكون موقعه موقع التشجيع لإزالة الخوف، ويكون نصبه على النيابة عن المفعول المطلق.
وقيل: معناه أنّهم لا يظلمون بنقص أقلّ زمن من آجالهم، ويجيء على هذا التفسير أن يجعل {تظلمون} بمعنى تنقصون، كقوله تعالى: {ولم تَظْلِمْ منه شيئًا} [الكهف: 33]، أي كلتا الجنتين من أكلها، ويكون {فتيلا} مفعولًا به، أي لا تنقصون من أعماركم ساعة، فلا موجب للجبن. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالأَخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاُ}.
مَكَّنَكَ من الدنيا ثم قال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} فلم يَعُدَّها شيئًا لك ثم لو تَصَدَّقْتَ منها بِشقِّ تمرةٍ لتَخَلَّصْتَ من النار، وحظيت بالجنة، وهذا غاية الكرم.
واستقلالُ الكثير من نفسك- لأجل حبيبك- أقوى أمارات صُحْبتك.
ويقال لما زَهَّدَهم في الدنيا قلَّلَها في أعينهم ليهون (عليها) تركها.
ويقال قل متاعُ الدنيا بجملتها قليلٌ، والذي هو نصيبك منها أقلُّ من القليل، فمتى يناقشك لأجلها (بالتخليل)، ولو سَلِم عهدك من التبديل؟
وإذا كانت قيمة الدنيا قليلة فأخَسُّ من الخسيس مَنْ رَضِيَ بالخسيس بدلًا عن النفيس.
وقد اخْتَلَعَ المؤمن من الكون بالتدريج. فقال أولًا: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ} فاحفظهم عن الدنيا بالعقبى، ثم سلبهم عن الكونين بقوله: {وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 73]. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} أي لا ينقصون من ثواب أعمالهم مثل فتيل النواة وهو ما تفتله بيدك ثم تلقيه احتقارًا. اهـ.

.من فوائد ابن عطية في الآية:

قال رحمه الله:
وقوله: {ألم تر إلى الذين قيل لهم} اختلف المتأولون فيمن المراد بقوله: {الذين قيل لهم}؟ فقال ابن عباس وغيره: كان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن عمرو الكندي وجماعة سواهم قد أنفقوا من الذل بمكة قبل الهجرة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيح لهم مقاتلة المشركين فأمرهم الله تعالى بكف الأيدي، وأن لا يفعلوا، فلما كان بالمدينة وفرض القتال، شق ذلك على بعضهم وصعب موقعه، ولحقهم ما يلحق البشر من الخور والكع عن مقارعة العدو فنزلت الآية فيهم، وقال قوم: كان كثير من العرب قد استحسنوا الدخول في دين محمد عليه السلام على فرائضه التي كانت قبل القتال من الصلاة والزكاة ونحوها والموادعة وكف الأيدي، فلما نزل القتال شق ذلك عليهم وجزعوا له، فنزلت الآية فيهم، وقال مجاهد وابن عباس أيضًا: إنما الآية حكاية عن اليهود أنهم فعلوا ذلك مع نبيهم في وقته، فمعنى الحكاية عنهم تقبيح فعلهم، ونهي المؤمنين عن فعل مثله، وقالت فرقة: المراد بالآية المنافقون من أهل المدينة عبد الله بن أبيّ وأمثاله، وذلك أنهم كانوا قد سكنوا على الكره إلى فرائض الإسلام مع الدعة وعدم القتال، فلما نزل القتال شق عليهم وصعب عليهم صعوبة شديدة، إذ كانوا مكذبين بالثواب، ذكره المهدوي قال القاضي أبو محمد رحمه الله: ويحسن هذا القول أن ذكر المنافقين يطرد فيما بعدها من الآيات، ومعنى {كفوا أيديكم} أمسكوا عن القتال، والفريق: الطائفة من الناس، كأنه فارق غيره. وقوله: {يخشون الناس كخشية الله} يعني أنهم كانوا يخافون الله في جهة الموت، لأنهم لا يخشون الموت إلا منه، فلما كتب عليهم قتال الناس رأوا أنهم يموتون بأيديهم، فخشوهم في جهة الموت كما كانوا يخشون الله، وقال الحسن: قوله: {كخشية الله} يدل على أنها في المؤمنين، وهي خشية خوف لا خشية مخالفة، ويحتمل أن يكون المعنى يخشون الناس على حد خشية المؤمنين الله عز وجل.
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: وهذا ترجيح لا قطع، وقوله: {أو أشد خشية} قالت فرقة: {أو} بمعنى الواو، وفرقة: هي بمعنى بل وفرقة: هي للتخيير، وفرقة: على بابها في الشك في حق المخاطب، وفرقة: هي على جهة الإبهام على المخاطب.
قال القاضي أبو محمد: وقد شرحت هذه الأقوال كلها في سورة البقرة في قوله: {أو أشد قسوة} [الآية: 74] أن الموضعين سواء، وقولهم، {لم كتبت علينا القتال}؟ رد في صدر أوامر الله تعالى وقلة استسلام، والأجل القريب يعنون به موتهم على فرشهم، هكذا قال المفسرون.
قال القاضي أبو محمد: وهذا يحسن إذا كانت الآية في اليهود أو المنافقين، وأما إذا كانت في طائفة من الصحابة، فإنما طلبوا التأخر إلى وقت ظهور الإسلام وكثرة عددهم.
المعنى: {قل} يا محمد لهؤلاء: {متاع الدنيا}، أي الاستمتاع بالحياة فيها الذي حرصتم عليه وأشفقتم من فقده {قليل}، لأنه فان زائل {والآخرة} التي هي نعيم مؤبد {خير} لمن أطاع الله واتقاه في الامتثال لأوامره، على المحاب والمكاره، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم {تظلمون} بالتاء على الخطاب، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي {يظلمون} بالياء على ترك المخاطبة وذكر الغائب، والفتيل الخيط في شق نواة التمرة، وقد تقدم القول فيه. اهـ.

.من فوائد أبي السعود في الآية:

قال رحمه الله:
{أَلَمْ تَرَ الذين قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} تعجيبٌ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم من إحجامهم عن القتال مع أنهم كانوا قبل ذلك راغبين فيه حِراصًا عليه بحيث كادوا يباشرونه كما ينبئ عنه الأمرُ بكفّ الأيدي فإن ذلك مُشعرٌ بكونهم بصدد بسطِها إلى العدو بحيث يكادون يسطون بهم، قال الكلبي: إن جماعةً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام منهم عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ الزُّهري والمقداد بنُ الأسودِ الكنديُّ وقُدامةُ بنُ مظعونٍ الجُمَحي وسعدُ بنُ أبي وقاص الزُّهري رضي الله تعالى عنهم كانوا يلقَوْن من مشركي مكةَ قبل الهجرةِ أذى شديدًا فيشكون ذلك إلى النبي عليه الصلاة والسلام ويقولون: ائذنْ لنا في قتالهم، فيقول لهم النبي عليه الصلاة والسلام: {كُفّوا أيديَكم وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاة} فإني لم أُومْر بقتالهم، وبناءُ القولِ للمفعول مع أن القائلَ هو النبيُّ عليه الصلاة والسلام للإيذان بكون ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى ولأن المقصودَ بالذات والمعتبرَ في التعجيب إنما هو كمالُ رغبتِهم في القتال وكونُهم بحيث احتاجوا إلى النهي عنه، وإنما ذُكر في حيز الصِّلةِ الأمرُ بكف الأيدي لتحقيقه وتصويرِه على طريقة الكنايةِ فلا يتعلق ببيان خصوصيةِ الأمرِ غرضٌ، وكانوا في مدة إقامتِهم بمكةَ مستمرِّين على تلك الحالةِ فلما هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأُمروا بالقتال في وقعة بدرٍ كرِهَه بعضُهم وشق ذلك عليه لكنْ لا شكًّا في الدين ولا رغبةً عنه بل نفورًا عن الإخطار بالأرواح وخوفًا من الموت بموجَب الجِبِلَّة البشريةِ وذلك قولُه تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} إلخ، وهو عطفٌ على {قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ} باعتبار مدلولِه الكنائيِّ إذْ حينئذٍ يتحقق التبايُنُ بين مدلولَي المعطوفَين وعليه يدور أمرُ التعجيبِ كأنه قيل: ألم ترَ إلى الذين كانوا حِراصًا على القتال، فلما كُتب عليهم كرِهَه بعضُهم، وقولُه تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس} جوابُ لمّا على أن فريقٌ مبتدأٌ، ومنهم متعلقٌ بمحذوف وقع صفةً له ويخشَوْن خبرُه، وتصديرُه بإذا المفاجَأةِ لبيان مسارعتِهم إلى الخشية آثِرَ ذي أثيرٍ من غير تلعثمٍ وتردد، أي فاجأ فريقٌ منهم أن يخشوا الكفارَ أن يقتلوهم ولعل توجيهَ التعجيبِ إلى الكل مع صدور الخشيةِ عن بعضهم للإيذان بأنه ما كان ينبغي أن يصدُر عن أحدهم ما ينافي حالتَهم الأولى، وقولُه تعالى: {كَخَشْيَةِ الله} مصدرٌ مضافٌ إلى المفعولِ محلُّه النصبُ على أنه حال من فاعل يخشَون أي يخشَوْنهم مُشْبِهين لأهل خشيةِ الله تعالى: {أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} عطفٌ عليه بمعنى أو أشدَّ خشيةً من أهل خشيةِ الله، أو على أنه مصدرٌ مؤكدٌ على جعل الخشيةِ ذاتَ خشيةٍ مبالغةً كما في جدّ جِدُّه أي يخشَوْنهم خشيةً مثلَ خشيةِ الله أو خشيةً أشدَّ خشيةً من خشية الله.
وأيًا ما كان فكلمةُ أو إما للتنويع على معنى أن خشيةَ بعضِهم كخشية الله وخشيةَ بعضِهم أشدُّ منها، وإما للإبهام على السامع وهو قريبٌ مما في قوله تعالى: {وأرسلناه إلى مِاْئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} يعني أن من يبصرهم يقول إنهم مائة ألف أو يزيدون {وَقَالُواْ} عطف على جواب لما أي فلما كتب عليهم القتالُ هلع فريقٌ منهم خشيةَ الناسِ وقالوا: {رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال} في هذا الوقتِ لا على وجه الاعتراضِ على حكمه تعالى، والإنكارِ لإيجابه، بل على طريق تمنِّي التخفيفِ {لَوْلا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} استزادةٌ في مُدة الكفِّ واستمهالٌ إلى وقت آخرَ حذرًا من الموت، وقد جُوِّز أن يكون هذا مما نَطَقت به ألسنةُ حالِهم من غير أن يتفوهوا به صريحًا.
{قُلْ} أي تزهيدًا لهم فيما يؤمِّلونه بالقعود من المتاع الفاني وترغيبًا فيما ينالونه بالقتال من النعيم الباقي {متاع الدنيا} أي ما يُتَمتّع ويُنتفع به في الدنيا {قَلِيلٌ} سريعُ التقضِّي وشيكُ الانصرامِ وإن أُخِّرتم إلى ذلك الأجلِ {والاخرة} أي ثوابُها الذي من جملته الثوابُ المنوطُ بالقتال {خَيْرٌ} أي لكم من ذلك المتاعِ القليلِ، لكثرته وعدمِ انقطاعِه وصفائِه عن الكدورات وإنما قيل: {لِمَنِ اتقى} حثًا لهم على اتقاءِ العِصيانِ والإخلالِ بمواجب التكليفِ {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} عطفٌ على مقدر ينسحب عليه الكلامُ أي تُجزَوْن فيها ولا تُنقَصون أدنى شيءٍ من أجور أعمالِكم التي من جملتها مسعاكم في شأن القتالِ فلا ترغبوا عنه، والفتيلُ ما في شق النواةِ من الخيط يضرب به المثلُ في القلة والحقارة. اهـ.

.قال ابن عبد ربه:

فصل في صفة الدنيا:
قال رجُل لعلي بن أبي طالب كرم الله وَجْهَه: يا أميرَ المؤمنين، صِفْ لنا الدّنيا.
قال: ما أصِف مِن دارٍ أولها عَناء، وآخرُها فَناء، حَلالُها حساب، وحَرامها عِقاب؟ مَن اْستغنى فيها فُتِن، ومن افتقر فيها حَزِن. قيل لأرسطاطاليس: صِف لنا الدنيا. فقال: ما أصِف من دار أولها فَوْت، وآخرها مَوْت. وقيل لحكيم: صف لنا الدنيا. قال: أمَل بين يديك، وأجَل مُطِل عليك، وشَيْطان فتّان، وأمانِيُّ جرّارة العِنَا؛ تدعوك فَتستجيب، وترجُوها فتَخيب. وقيل لعامر بن عبد القيس: صف لنا الدنيا. قال: الدنيا والدةٌ للموت، ناقضة للمُبْرَم، مُرْتجعة للعطية، وكلُّ مَن فيها يجري إلى ما لا يدري. وقيل لبَكر بن عبد الله المُزنيّ: صِف لنا الدنيا. فقال: ما مَضى منها فَحُلم، وما بَقي فأمانيّ، وقيل لعبد الله بن ثَعْلبة: صِف لنا الدنيا قال: أمسُكَ مَذْموم منك، ويومُك غير محمود لك، وغَدك غير مأمون عليك. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: الدنيا سِجْن المُؤمن وجنَّة الكافر. وقال: الدنيا عرَضٌ حاضرِ، يأْكُل منه البرّ والفاجر، والآخرة وَعْد صِدْق يحكم فيها ملك قادر، يفصل الحقّ من الباطل. وقال: الدنيا خَضرِة حلْوَة، فمن أَخذها بحقّها بُورك له فيها، ومَن أخذها بغير حقّها كان كالآكِل الذي لا يَشْبع. وقال ابن مَسعود: ليس من الناس أَحدٌ إلا وهو ضَيْف على الدنيا ومالُه عارية، فالضَّيْف مُرْتحِل، والعارية مردودة. وقال المسيح عليه السلام: الدنيا لإبليس مزْرَعة وأهْلُها حُرَّاث. وقال إبليسُ: ما أُبالي إذا أحَب الناس الدنيا أن لا يَعْبُدوا صَنما ولا وَثَنا، الدنيا أفتنُ لهم من ذلك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يُسمِّي الدنيا أمّ ذَفَر. والذفر: النتن. وقال النبي صلى الله عليه وسلم للضحَّاك بن سُفيان: ما طعامُك؟ قال: اللحم واللبن؛ قال: ثم إلى ماذا يَصير؟ قال: يصير إلى ما قد علمت؛ قال: فإنّ الله عزّ وجلّ ضَرَب ما يخرج من ابن آدم مثلًا للدنيا. وقال المسيحُ عليه السلام لأصحابه: اتخذوا الدنيا قَنطرة فاعبرُوها ولا تَعْمُروها. وفي بعض الكتب: أوحى اللهّ إلى الدنيا: من خَدمني فاخدُميه، ومَن خدمك فاستخدميه. وقيل لنُوح عليه السلام: يا أبا البَشر ويا طويل العُمر، كيف وجدتَ الدنيا؟ قال: كَبَيْتٍ له بابان، دخلتُ من أحدهما وخرجتُ من الآخر. وقال لُقمان لابنه: إنّ الدنيا بَحْرٌ عريض، قد هلك فيه الأوَلون والآخِرون، فإن استطعت فاجعل سَفِينتك تقوى اللّه، وعدَتك التوكُّل على اللّه، وزادك العملَ الصالح، فإن نجوتَ فبرحمة اللّه، وإن هلكت فبذنوبك. وقال محمد بن الحنفيّة: من كرُمت عليه نفسُه هانت عليه الدنيا. وقال: إنّ المُلوك خَلَّوْا لكم الحِكمة فَخلُوا لهم الدنيا. وقيل لمحمد بن واسع: إنك لترضى بالدُّون؛ قال: إنما رَضي بالدُون من رضي بالدنيا. وقال المسيحُ عليه الصلاة والسلام للحواريين: أنا الذي كفأتُ الدنيا علىِ وَجهها، فليس لي زوجةٌ تموت ولا بَيْت يَخْرَب. شكا رجل إلى يُونس بن عُبيد وَجَعاَ يَجده؛ فقال له: يا عبد الله، هذه دار لا توافقك، فالتمس لك دارًا تُوافقك. لقي رجلٌ راَهِبًا، فقال: يا راهب، صِف لنا الدنيا؛ فقال: الدنيا تُخْلِق الأبدان، وتُجَدِّد الآمال، وِتباعد الأمْنِيّة، وتُقَرِّب المنيَّة، قال: فما حالُ أهلها؟ قال مَنْ ظَفِرَ بها تَعِب، ومن فاتْته نصِب؟ قال: فما الغِنى عنها؟ قال: قَطْعُ الرَّجاءِ منها، قالت: فأين المَخْرَج؟ قال: في سُلوك المَنْهَج؟ قال: وما ذاك؟ قال بَذْل المجهود، والرِّضا بالمَوْجود. قال الشاعر:
ما الناسُ إلا مع الدنيا وصاحبها ** فحيثما انقلبت يومًا به انقلبوا

يُعظِّمون أخا الدنيا وإن وَثَبت ** يومًا عليه بما لا يَشْتَهي وَثبوا

وقال آخر:
يا خاطبَ الدنيا إلى نفسه ** تَنَحَ عن خطبتهْا تَسْلَم

إنً التيَ تَخْطُبُ غَزَارَةٌ ** قريبةُ العُرْس من المَأْتَم